قراءة في قصيدة «تنظير علماني» الهوية والتناقض الفكري

 

قراءة في قصيدة «تنظير علماني» الهوية والتناقض الفكري


قراءة في قصيدة «تنظير علماني» الهوية والتناقض الفكري

يُعتبر هذا النص نموذجا للخطاب النقدي الذي يسعى إلى تقديم رؤية تحليلية ساخرة لبعض التوجهات الفكرية، مستخدمًا أسلوبًا شعريًا يعتمد على المفارقة والتناقض لإبراز التناقضات العميقة في الذهنية العربية المثقفة، ويطرح نقدًا ساخرا لفئة تتبنى العلمانية، ويكشف تناقضاتها الداخلية عندما يتعلق الأمر بالممارسات الفعلية لهذه الأيديولوجيا، ويستخدم الشاعر أسلوبًا هجائيًا تهكميا، متكئًا فيه على الرمزية والمفارقة، ليوضح كيف يمكن للعقلانية الظاهرية أن تكون مجرد غطاء للتحيزات الأيديولوجية والطائفية.
الفكرة والموضوع:
يتناول النص فكرة العلمانية المزيفة، ومدى تناقض من يدعي العلمانية والتنوير والتظاهر بالحياد الفكري والانفتاح، لكنه في الواقع متحيز لفئة معينة أو أيديولوجية محددة، أو يخضع لفكر طائفي يوجهه، فهو شخصية متناقضة تكشف عن انتماء طائفي متعصب، ورفض لكل من يخالفها تحت شعارات زائفة من الموضوعية وقبول الآخر، ويسعى الشاعر في أبياته إلى فضح هذه الازدواجية من خلال تصوير شخصية تتظاهر بالتحرر الفكري والتنوير، لكنها في الواقع تخضع لطائفتها الخاصة دون تفكير نقدي حقيقي، مما يظهر تناقض الذات بين الادعاء الفكري والواقع الأيديولوجي، حيث تُختزل العلمانية في النص كأداة لخدمة الطائفة، لا كفكرٍ تحرري، وهي تشريح للمثقف الذي يرفع شعار التنوير ليخفي انحيازا طائفيا، تلك الشخصية تستخدم التنوير كأداة هيمنة، فهي تهاجم الأديان وتنتقدها بشراسة، لكنها تلبس طائفتها القداسة، مما يكشف انتقائية تناقض العلمانية الحقيقية، وتستخدم القمع للمخالفين لها باسم العقل، فتتباهى بالعقلانية، في حين أنها تقر باتباعها للطائفة وتنفيذ أوامرها دون تفكير، وعلى يديها تتحول الهوية الطائفية إلى سلاح يحرق كل من عداها.. يقول مفتتحا قصيدته:
علماني فكري علماني
وأحارب كل الأديان
أنا أحمل مشعل تنوير
قد ضاع بعمق الدخان.
هنا، يبدأ النص بتصوير الشخصية الرئيسية كمن يرفع راية التنوير، لكنه في الحقيقة قد أضاع هذه الرسالة في ضباب ثنائية فكرية متناقضة، وهو في الواقع يمثل الانغلاق، والعنف، والتحيز الطائفي، هذه المفارقة الأساسية تبرز بوضوح كيف يمكن لفكرة العلمانية أن تستخدم كشعار زائف دون ممارسة حقيقية للمبادئ التي تدّعيها.
الأسلوب الساخر كأداة لتوصيل الفكرة
يعتمد الشاعر على السخرية اللاذعة والنقد الساخر يجمع بين التصريح والتلميح للكشف عن تناقضات الموقف الفكري لشخصية المثقف العلماني المتحيز، فعلى الرغم من ادعائه مناهضة جميع الأديان والحيادية المطلقة، إلا أنه يظهر سريعا تحيزه لطائفته:
لكن أستثني طائفتي،
فأنا إنسان عقلاني
***
سأحابي دوما طائفتي
لو مالت نحو الشيطان
هنا، يكشف عن المفارقة الصارخة: فبينما يدّعي المتحدث تبني التفكير العقلاني، إلا أنه يستثني نفسه من هذا المنطق عندما يتعلق الأمر بطائفته الخاصة، مما يظهر ازدواجية المعايير لديه، كما يبرز النص الطاعة العمياء للأيديولوجيا الخاصة بالطائفة، إذ يُظهر الشخص المتحدث وكأنه لا يملك استقلالية في التفكير:
كهَنُوتِي يأمرني أمرا،
ومحالٌ جدًا عصياني
فخياري أني ملتزم
في حشد مثل القطعان!
هنا نرى صورة الفرد الذي يتبع تعاليم أيديولوجية معينة دون تفكير، الأمر الذي يفضح التناقض الداخلي في خطابه، فهو متحيز مسير، وكأنه محكوم بإرادة خارجة عن منطقه العقلاني المزعوم.
الأسلوب الفني والصور البلاغية:
اعتمد الشاعر على استخدام التكرار واعتمد على المفارقة بذكاء لتوصيل رسالته للمتلقي، واختار اللغة المباشرة القوية التي تظهر سخريته في نبرة هجائية تهكمية تهدف إلى كشف التناقضات الداخلية، فمثلاً، يظهر تناقض المتحدث عندما يقول: «أنا ضد الدين وضد الكفر، وضد الأمر الرباني»
هنا، يقدم الشاعر حالة عبثية لا منطقية، حيث يدّعي المتحدث أنه ضد الدين وضد الكفر معًا، مما يترك القارئ في حالة استغراب وتساؤل حول الموقف الحقيقي لهذا الفكر الذي يدّعي التحرر، كما استخدم الألفاظ القوية مثل «وحش، ثعبان، طغيان» ليضفي طابعا دراميا يُبرز صراع الأفكار والهوية الفكرية، واستخدم «أتحور، بركان» دلالة على والتحول والتلون في الموقف، والغضب والثورة،
بالإضافة إلى ذلك، نجد أن استخدام الصور الفنية في النص يضيف عمقا للمعاني، مثل قوله:
وسلاحي سيفٌ من ورقٍ،
لا يعرف شكل الميدانِ
فالسيف الورقي يشير إلى ضعف الحجة الفكرية لدى بعض من يدّعون العلمانية، حيث أن خطابهم قد يبدو قويا، لكنه ينهار أمام الواقع العملي، كما يعكس استخدام الرموز مثل: «مشعل التنوير الضائع، ومخلب ثعبان» قوة التصوير الفني والرمزي في النص الذي يبين الطبيعة العدوانية المكبوتة تحت قناع العقلانية، والخداع والاستبداد المُتخفي وراء الشعارات.
هذا، وقد اختار الشاعر بحرا خليليا خفيفا راقصا، يزخر بالموسيقا والإيقاع الراقص، فيذكرنا بقفزات وحركات المهرج، وهو يقوم برقصاته ومواقفه المضحكة أمام الجمهور، وهو إيقاع يسهل الحفظ والتغني.
إن القصيدة ليست مجرد هجاء ساخر، لكنها مرآة لأزمة المجتمعات التي تستبدل الأصنام القديمة بأصنام جديدة تحت شعارات زائفة، لمجتمعات تختزل التحرر في شعارات جوفاء، وتكشف الوجه الخفي للخطاب الذي يتخذ من العقلانية والعلمانية ستارًا لتمرير أطروحات استبدادية وقدمت تشريحاً دقيقاً لتناقضات الخطاب العلماني، واستطاعت عبر صورها الشعرية كشف الهوة بين الشعارات البراقة والممارسات الواقعية، وفهم إشكاليات الهوية والانتماء، كما تطرح سؤالا جوهريا: كيف يمكن للفكر أن يكون تنويريّا إذا تحول إلى كهانة جديدة؟ وكيف نحرر العقل من التزييف والاستلاب في المجتمعات التي ترفع شعارات التقدم بينما تكرس التبعية الطائفية والاستبداد؟

بقلم :حنان عبد القادر


ليست هناك تعليقات